وضع داكن
25-11-2024
Logo
الزواج - الدرس : 09 - إزالة العقبات الكبيرة.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العلمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

عوائق الزواج ومشكلاته

أيها الإخوة والمؤمنون، مع الدرس الثاني من دروس موضوع الزواج الذي أردت أن يكون غِطاءً للمشكلات التي يعاني منها المجتمع المسلم

وقد وعدتكم في الدرس الماضي أن أتحدث عن العوائق التي تقف أمام الشباب إذا أرادوا الزواج.
الحقيقة أن من أكبر هذه العوائق موضوع الفقر، فالإسلام بادئ ذي بدء لم يكتف بالترغيب في الزواج، بل أمر بتعجيله، فقد روى الإمام الترمذي عن عليٍ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له:

(( يَا عَلِيُّ، ثَلاثٌ لا تُؤَخِّرْهَا: الصَّلاةُ إِذَا آنَتْ، وَالْجَنَازَةُ إِذَا حَضَرَتْ، وَالأَيِّمُ إِذَا وَجَدْتَ لَهَا كُفْئًا))

الترمذي]

إذا آنت أي آن أوانها، أي دخل وقتها.
ينبغي أن نكون جميعاً من أنصار الزواج المبكر لشبابنا وشابَّاتنا على حدٍ سواء، بل إن تأخير الزواج له مخاطر كبيرةٌ جداً، ليس أقلّها الانحراف:

(( يَا عَلِيُّ، ثَلاثٌ لا تُؤَخِّرْهَا: الصَّلاةُ إِذَا آنَتْ، وَالْجَنَازَةُ إِذَا حَضَرَتْ، وَالأَيِّمُ إِذَا وَجَدْتَ لَهَا كُفْئًا ))

[الترمذي]

أيها الإخوة الكرام، من بعض مضار تأخير الزواج الوقوع في الحرام، الزواج حصن للفتى وللفتاة.

العائق الأول: الفقر – معالجته

الآن العائق الأول الذي يقف أمام الشباب هو الفقر، فكيف نعالج هذا العائق ؟
أولاً: ينبغي أن يُعالج بما يسمَّى الدعم المعنوي للفقير، والدعم المعنوي يحتاج إلى دعم مادي أيضاً، فماذا نعني بالدعم المعنوي ؟
الحقيقة أن الإنسان إذا افتقر إلى المال ربما فقدَ ثقته بنفسه، وربما جنح إلى الظن أنه عاجزٌ عن أن يُقدِم على هذا المشروع الكبير، وربما توهَّم أن الإحجام عن الزواج خيرٌ له من هذه الورطة الكبيرة، هذه كلها مشاعر نفسية تنتاب من افتقر إلى المال، فتضعف ثقته بنفسه، ويتوهم أن الإحجام عن الزواج خيرٌ له، يشعر أنه يعجز عن الإقدام على هذا المشروع الكبير، بل إن الذي تضيق ذات يده يفقد كثيراً من خصائصه النفسية، فالإنسان له خصائص، وله قدرات، فإذا ضاقت يده عن أن تملك ما يقيم أوْده فَقَد كثيراً من خصائصه الأساسية التي أكرمه الله بها، والناس لضعف إيمانهم ولضعف تفكيرهم لا ينظرون إلى الفقير إلا على أنه فقير، وينسون أن هذا الذي أمامكم إنسان يتمتع بالفكر والعقل، والإدراك والنفس والمشاعر، والمبادئ والقيم، لذلك الناس التائهون الشاردون عن منهج الله عزّ وجل يحجمون عن تزويج الفقير لتوهمهم أنه لا يستطيع أن يُسعد ابنتهم، وقد تكون الحقيقة عكس ذلك.
نحن نعود إلى كتاب الله:

﴿ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ﴾

( سورة النساء: آية " 65 " )

﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ﴾

( سورة الأحزاب: آية " 36 " )

ماذا قال الله عزّ وجل في القرآن الكريم ؟ قال:

 

﴿ وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾

( سورة النور )

وأمام هذه الآية وقفةٌ طويلة، ]

 

أَنْكِحُوا[ فعلُ أمرٍ، و]الأَيَامَى[ جمعُ أيّمٍ، والأيِّم أيّ شخصٍ ذكراً كان أو أُنثى لا زوجة له، ]أَنْكِحُوا الأَيَامَى[، والأمر موجه إلى مجموع الأُمة، وإذا وجِّه الأمر إلى مجموع الأمة فهو موجهٌ بالتبعية إلى أُولي الأمر، لأنهم ينوبون عن مجموع الأمة في إدارة أمورهم.
ماذا يقول العلماء الكبار في هذه الآية ؟ يقول ابن العربي في تفسيره: " في هذه الآية دليلٌ على تزويج الفقير، والفقير ليس له الحق أن يقول: كيف أتزوج وليس لي مال ؟ فإن رزقه ورزق عياله على الله عزّ وجل "، وفي القرآن الكريم:

﴿ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾

طرق معالجة الفقر: (1) الدعم المعنوي

نبدأ الآن بالدعم المعنوي: يجب على من لا يملك مقومات الزواج أن يشعر أن هذا العمل يغنيه، فإنْ يكونوا فقراء قبل الزواج يغنِهم الله من فضله، والنبي عليه الصلاة والسلام زوَّج صحابيةً من بعض أصحابه، وليس له إلا إزارٌ واحد، وقد زوَّج النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه على سورةٍ يحفظها من كتاب الله.
القاضي أبو مسعود يقول: " اطلبوا الغنى في هذه الآية "، أيْ إذا أردت أن تكون غنياً فتزوج، لأنه ما شكا أحدٌ إلى النبي e ضيقَ ذاته إلا قال له: " اذهب فتزوج ".
القصد أن الإنسان الذي لا يملك ما يكفي للزواج أن يشعر أن الله سبحانه وتعالى سوف يغنيه إذا أقدم على هذا الزواج، لكنك إذا أردت أن تكون واقعياً، هذا الغنى الذي يكون بعد الزواج ربما شاءه الله، وربما لم يشأه سبحانه، لكي تكون واقعيًّا، إنْ شاءه فلحكمةٍ بالغة، وإن لم يشأه فلحكمةٍ بالغة، لذلك قال تعالى:

﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾

الأصل أن الذي يقدم على الزواج يغنيه الله سبحانه وتعالى إن شاء.
أحياناً الأب يكون غنياً، وهذا ابنه، والأصل أن يعطيه ما يريد، لكن إذا ثبت للأب أن هذا العطاء ربما أضرَّ مستقبله، ربما استخدمه فيما لا يرضي، قد يمنع الأب ابنه من عطاءٍ لحكمةٍ يراها، لذلك الغنى هنا الذي وعد الله به من يقدم على الزواج مرتبطٌ بمشيئة الله عزَّ وجل، ماذا يقول الصديق رضي الله عنه في هذه الآية ؟ يقول: << أطيعوا الله فيما أمركم به من النكاح ينجز لكم ما وعدكم من الغنى >>.
ماذا يقول سيدنا عمر عن هذه الآية ؟ 

﴿ وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ ﴾

( سورة النور: آية " 32 " )

يقول عمر رضي الله عنه: << ما رأيت مثل من يجلس أيماً بعد هذه الآية: ]

 

أَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُم[ >>.
ما رأيت: أي أنا أعجب أشدَّ العجب مما يبقى أيماً بعد هذه الآية، هذا قول سيدنا عمر.
ويقول أيضاً: << التمسوا الغنى في الزواج >>.
الإمام البخاري في صحيحه عقد باباً تحت عنوان تزويج المعسر لقوله تعالى:

﴿ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ﴾

في شرح ابن حجر العسقلاني لصحيح البخاري، يقول ابن حجر: " إن الفقر في الحال لا يمنع التزويج لاحتمال حصول المال في المآل ".
هناك مناقشة دقيقة أرجو أن تكون واضحةً لديكم، الله عزَّ وجل يغني الأعزب أو يفقره، ويغني المتزوج أو يفقره، مادام الغنى الذي وعد الله به منوطاً بمشيئة الله معنى ذلك أن يمكن للإنسان أن يتزوج ولا يغتني، أو يكون أعزب وهو فقير، وقد يكون أعزب وهو غني، ومادام هذا منوطاً بمشيئة الله عزَّ وجل فلماذا ربط الله الغنى بالزواج ؟ حسب المعنى الدقيق للآية يمكن أن يغني الله الأعزب أو يغني المتزوج، أو يفقرهما معاً، فلماذا ربط الله عزَّ وجل الغنى بالزواج ؟
يجيب العلماء بأن الإنسان في الأعم الأغلب يتوهم أن الزواج إنفاق المال وإنجاب الأولاد، وتأمين الطعام والشراب والكساء، ففي توهم بعض الناس أن الزواج يعني المزيد من المال، وأن العزوبة ربما كانت أخفُّ إنفاقاً من الزواج، لأنه نظر إلى الأسباب، ولم ينظر إلى المسبِّب، فلذلك طمأننا ربنا جلَّ جلاله وقال: لا تربطوا بين الزواج والفقر ولا بين الغنى وترك الزواج، فالله سبحانه وتعالى هو المغني، وهو المعطي، وهو الذي يرفع الإنسان من حالٍ إلى حال.
يقول عليه الصلاة والسلام:

(( ثلاثةٌ حقٌ على الله... ))

بالمناسبة إذا وردت كلمة على مع لفظ الجلالة فهي تفيد الإلزام، لكن الله من يلزمه ؟ قال العلماء: إذا قال الله عزَّ وجل: 

﴿ إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾

( سورة هود)

﴿ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا ﴾

( سورة هود: آية " 6 " )

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

(( ثَلاثَةٌ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ عَوْنُهُمُ: الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالْمُكَاتَبُ الَّذِي يُرِيدُ الأَدَاءَ، وَالنَّاكِحُ الَّذِي يُرِيدُ الْعَفَافَ ))

أي أن الله جلَّ جلاله ألزم نفسه إلزاماً ذاتياً أن يعين كلَّ طالب عفاف من دون استثناء، أفلا يكفي هذا الحديث:

(( ثَلاثَةٌ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ عَوْنُهُمُ: الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالْمُكَاتَبُ الَّذِي يُرِيدُ الأَدَاءَ، وَالنَّاكِحُ الَّذِي يُرِيدُ الْعَفَافَ ))

[الترمذي]

هذا الذي أريده من كلمة دعم الفقير الدعم المعنوي، أي أن الفقير ينبغي أن يقدم ينبغي ألا يحجم، لأنه من ترك التزويج مخافة العيلة فليس منا، بل يجب أن يأخذ بالأسباب، وأن يتوكل على رب الأرباب، لا ينبغي أن يتردد، أما بالحساب فربما عزف الإنسان عن الزواج كلياً، أما بالتوكل على الله اعتماداً على هذه الآية العظيمة:

 

﴿ وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾

( سورة النور )

فإنه يقدم على الزواج.

(( ثَلاثَةٌ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ عَوْنُهُمُ: الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالْمُكَاتَبُ الَّذِي يُرِيدُ الأَدَاءَ، وَالنَّاكِحُ الَّذِي يُرِيدُ الْعَفَافَ ))

و: << ما شكا إلى النبي e أحدٌ ضيق ذات يده إلا قال له: اذهب فتزوج >>.
لقد وردت أحاديث صحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال سيدنا سعد بن أبي وقاص: << ثلاثةٌ أنا فيهن رجل، وفيما سوى ذلك فأنا واحدٌ من الناس، ما سمعت حديثاً من رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إلا علمت أنه حقٌ من الله تعالى...>>.
هذه الفقرة الأولى من الدرس.

الفقر لا ينقص من قدر الإنسان

الفقرة الثانية، الفقر ليس ينقص من قدر الإنسان، دققوا لماذا جعل الله بعض الأنبياء فقراء ؟ لماذا جعل الله بعض الأنبياء أولادهم ليسوا على مذهبهم ؟ سيدنا نوح، ولماذا جعل الله بعض الصديقات آسية امرأة فرعون صديقة وزوجها فرعون نبيٌ كان ملكاً، ونبيٌ كان راعي غنم، ونبيٌ كانت له زوجةٌ سيئةٌ: 

﴿ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ﴾

( سورة التحريم )

إنّ الفقر لا يزري بصاحبه، بل إن النبي كان عليه الصلاة والسلام كان فقيراً، وقد كان يدخل إلى البيت فلا يجد أكلا، فعَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ: 

(( يَا عَائِشَةُ، هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ ؟ قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عِنْدَنَا شَيْءٌ، قَالَ: فَإِنِّي صَائِمٌ ))

عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: 

(( لَقَدْ أُخِفْتُ فِي اللَّهِ، وَمَا يُخَافُ أَحَدٌ، وَلَقَدْ أُوذِيتُ فِي اللَّهِ وَمَا يُؤْذَى أَحَدٌ، وَلَقَدْ أَتَتْ عَلَيَّ ثَلَاثُونَ مِنْ بَيْنِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَمَا لِي وَلِبِلَالٍ طَعَامٌ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ إِلَّا شَيْءٌ يُوَارِيهِ إِبْطُ بِلَالٍ )) 

[الترمذي]

مر رجل على رسول الله وكان عليه الصلاة والسلام مع أصحابه، ويبدو أن هذا الرجل غني، فعَنْ سَهْلٍ قَالَ: مَرَّ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:

(( مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا ؟ قَالُوا: حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ يُنْكَحَ ـ أن يزوَّج ـ وَإِنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ، وَإِنْ قَالَ أَنْ يُسْتَمَعَ، قَالَ: ثُمَّ سَكَتَ، فَمَرَّ رَجُلٌ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ: مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا ؟ ـ يبدوا أنه فقير ـ قَالُوا: حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ لا يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ لا يُشَفَّعَ، وَإِنْ قَالَ أَنْ لا يُسْتَمَعَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَذَا ـ يعني الفقير ـ خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الأَرْضِ مِثْلَ هَذَا ))

[البخاري]

الفقر لا يقدم ولا يؤخر، ولا يرفع ولا يخفض، ولا يعز ولا يذل، هذا عند التائهين، عند الشاردين عند الماديين، عند أهل الدنيا، لكن الفقر في عالم الإيمان شيءٌ عرَضي، قدَّره الله عزَّ وجل لحكمةٍ بالغة، إما امتحاناً، وإما تأديباً، وإما حفظاً.
عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

(( إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَيَحْمِي عَبْدَه الْمُؤْمِنَ مِنْ الدُّنْيَا وَهُوَ يَحْمِيهِ كَمَا تَحْمُونَ مَرِيضَكُمْ مِنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ تَخَافُونَهُ عَلَيْهِ ))

[أحمد]

هذا الحديث يكفي، إن هذا، وأشار إلى الفقير، خيرٌ من ملء الأرض من هذا، وهذا الحديث ورد في صحيح البخاري وهو من أصح الأحاديث.
وروى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال عليه الصلاة والسلام:

(( إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ، إِلا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ))

[الترمذي]

كيف ؟ كلما طرق بيت المسلم خاطبٌ فقير ردَّ لفقره، هذه الفتاة بقيت بلا زواج، وكلما طلب فتىً فقير للزواج رد لفقره فبقي هذا الفتى بلا زواج، ما الذي سيحصل ؟ نحن أمام أعداد كبيرة جداً من الفتيان والفتيات فاتهم قطار الزواج، لا لشيء إلا لأنهم فقراء، وحينما يفوت الإنسان قطار الزواج يصبح أكثر عرضةً للفساد مما لو تزوج، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول:

(( مَنِ اسْتَطَاعَ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصوْمِ، فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ))

( صحيح البخاري عن ابن مسعود)

تعريف دقيق:

(( أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ.. إِلا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ ))

من رغب في الفتاة لأنها غنية، ما الذي يحصل ؟ روى الإمام البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

(( تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا، وَلِحَسَبِهَا، وَجَمَالِهَا، وَلِدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ `

[البخاري]

في حديث آخر أرويه لكم دائماً:

(( من تزوج المرأة لجمالها أذله الله، ومن تزوجها لمالها أفقره الله، ومن تزوجها لحسبها زاده الله دناءةً، فعليك بذات الدين تربت يداك ))

[ورد في الأثر]

ويقول ابن حجر العسقلاني في شرح هذا الحديث: " يليق بالمؤمن الدين والمروءة، أن يكون الدين مطمحه في كل علاقاته الإنسانية، ولا سيما إذا كانت العلاقة مديدةً، وهل من علاقةٍ أطول من علاقة الزواج ؟ ".
عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال عليه الصلاة والسلام:

(( لا تَزَوَّجُوا النِّسَاءَ لِحُسْنِهِنَّ فَعَسَى حُسْنُهُنَّ أَنْ يُرْدِيَهُنَّ، وَلا تَزَوَّجُوهُنَّ لأَمْوَالِهِنَّ فَعَسَى أَمْوَالُهُنَّ أَنْ تُطْغِيَهُنَّ، وَلَكِنْ تَزَوَّجُوهُنَّ عَلَى الدِّينِ، وَلأَمَةٌ خَرْمَاءُ سَوْدَاءُ ذَاتُ دِينٍ أَفْضَلُ ))

طبعاً لو قلنا: لحسنهن أي لحسنهن فقط، أي أنه لم ينتبه للدين، انتبه إلى الجمال فقط، خرماء أي أنها مقطوعة الأنف، مثقوبة الأذن.. ذَاتُ دِينٍ أَفْضَلُ، كيف لا و الله عزَّ وجل يقول في القرآن الكريم: 

﴿ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ ﴾

( سورة البقرة: آية " 221 " )

الآن هذا هو الدعم المعنوي.

طرق معالجة الفقر: (1) الدعم المادي

لكن نحن نريد الدعم المالي للفقير، هذا الدعم موزع على ثلاث جهات: موزعٌ على عاتق الآباء، وموزعٌ على عاتق المجتمع الإسلامي، وموزعٌ على عاتق أولي الأمر، أي واجب الأولياء، وواجب المسلمين جميعاً، وواجب أولي الأمر أن يقدموا يد العون لتزويج الشباب، وبعضهم يقول: ينبغي أن يكون الدرس مؤصلاً، ومعنى مؤصلاً، أي معتمداً على أصول، وهي الكتاب والسنة، لأنه درس دين هذا، فالأصل الكتاب والسنة.

واجب الآباء في تزويج الأبناء

الآن كيف أن تزويج الأبناء من واجب الآباء، هذا شيء نحن نقبله، ونرحب به، ونثني عليه، لكن النبي أوجب الآباء أن يزوِّج الأبناء ؟ استمعوا قال عليه الصلاة والسلام:

(( مَنْ وَلَدَ لَهُ وَلَدٌ... ))

نسميه مثلا عبد الله، أو عبد الرحمن، أو محي الدين، هناك أسماء لطيفة جداً أسماء دينية، أسماء جمالية، أسماء فيها مكارم أخلاق، صالح مثلاً، عمر.

(( مَنْ وَلَدَ لَهُ وَلَدٌ فَلْيُحْسِنْ اِسْمَهُ وَأَدَبَهُ، فَإِذَا بَلَغَ فَلْيُزَوِّجْهُ، فَإِنْ بَلَغَ وَلَمْ يُزَوِّجْهُ فَأَصَابَ إِثْماً فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى أَبِيهِ ))

[ورد في الأثر]

أن يسميه جعيفص مثلاً، فما هذا الاسم ؟!! سمِّه عبد الله، عبد الرحمن، محي الدين، فهناك أسماء لطيفة جداً، أسماء دينية، وأسماء جمالية، أسماء فيها مكارم أخلاق كصالح مثلاً، أو عمر.
هذا كلام النبي الذي لا ينطق عن الهوى.
أيها الآباء دققوا، وقبل أن ترفض أن تقدم لابنك المساعدة فكِّر في هذا الحديث، أنا عصامي يا بني، وأنت كن عصاميًّا مثلي، اذهب واشتغل، لا يجوز هذا، فالآن الأمور معقدة جداً، الأمور معقدة إلى درجة لا يمكن أن يتم زواجٌ من دون مساعدة من الأهل.
والله هناك أب أنا كلما ألتقي به والله في قلبي احترام له لا حدود له، سكن في بيت في أحد أحياء دمشق الراقية، اشتراه قبل أربعين أو خمسين سنة، والبيت أصبح ثمنه غاليًّا جداً، وهو موظف ودخله محدود، وعنده أولاد شباب، فباع البيت، واشترى لأولاده جميعهاً بيوتاً، وسكن معهم خارج دمشق، هذه بطولة كبيرة جداً، أن يؤمِّن الإنسان أولاده كلهم، طبعاً هيأ لأولاده بيوتاً على حسابه، خرج من هذا البيت الفخم، ومن هذه المساحة الكبيرة، ومن هذا الحي الراقي، وسكن خارج دمشق، واشترى لكل ولدٍ بيتاً.
وفي روايةً أخرى للإمام البيهقي عن عمر بن الخطاب وأنس بن مالك:

(( مَنْ بَلَغْتْ ابْنَتُه اثنتي عشرة سنة ولم يزوجها فأصابت إثماً فإثم ذلك عليه ))

قلت لكم مرةً، وَوالله لا أتمنى أن أعيد هذه الكلمة لأنها خشنة، لكنها وقعت: أبٌ على فراش الموت تقول له ابنته: والله لا أسامحك، والله لا أسامحك، والله لا أسامحك، وربما قالت: حرمك الله الجنة كما حرمتني الزواج، كلما جاء خاطبٌ رده لسببٍ تافه فبقيت بلا زوج.
وذكرت لكم سابقاً أن أقوى دافعٍ في الجنس البشري دافع الأمومة، لذلك الأب يجب أن يفكِّر ملياً، وأن يسعى حثيثاً، وأن يأخذ بالأسباب في تزويج بناته، أما أن يكون هو مرتاحاً ليس عنده هذا الضغط الذي أودعه الله في الأنثى وفي الرجل على حدٍ سواء، فبدأ يحاسب هذا الخاطب، أين سوف تسكن لي ابنتي ؟ يقول له: والله أنا عندي بيت خارج الشام، فيجيبه: لا.. لا.. نحن نريد في الشام، فإذا أمّن بيتاً في الشام، قال: كم مساحته ؟ لا، هذا صغير مثل اللعبة، كلما قدم شيئًا رفضه، والبنت على أحرَّ من الجمر، والأب قاسٍ وجبار، إلى أن فاتها قطار الزواج.
في المذهب الشافعي يجب على الرجل إعفاف ابنته إذا احتاجت إلى النكاح، كيف يجب عليه إعفاف ابنته ؟ أي إذا كنت ميسور الحال جداً، وأمَّنت لها بيتًا، وأنت في كامل قواك العقلية والشرعية، يأتيك أحسن الخطّاب لهذه الفتاة، هذا حل كبير، أنت حينما قدمت لها البيت، جاءك من تثق بدينه، وانحلّت عقبة، لكن لا تقدم لها بيتاً، وأنت غنيٌ كبير، لماذا ؟ لماذا قدمت لابنك ولم تقدم لابنتك بيتاً ؟

مسؤولية المجتمع في تزويج الأبناء

أما مسؤولية المجتمع الإسلامي عن تزويج الأيامى فلقول الله عزَّ وجل:

 

﴿ وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾

( سورة النور )

علماء الأصول لهم توجيهٌ لطيف في هذه الآية، الآيات التي توجه إلى مجموع المؤمنين هي موجهةٌ حكماً إلى أولي الأمر، لأن أولي الأمر هم الذين يديرون شؤون المسلمين، إذاً الحاكم المسلم مكلفٌ أن يسهِّل سُبل الزواج.
كنت في أحد عقود القران، وطُلِب مني أن أتكلم في الحلول العملية، أي لو هيأنا بيوتًا لا للبيع، بل للإيجار، شاب متفوق نال شهادة عليا، له راتب يكفيه طعاماً وشراباً ولباساً، لكن هذا الراتب لا يكفيه شراء بيت، فإذا أخذنا منه ثلث دخلّه كأجرة بيت حُلّت القضية، أنا أقول: الآن القضية متمركزة في البيت، لذلك أرجو الله عزَّ وجل أن ينهض المسلمون بتأمين البيوت الإيجار، فالبيع صعب، أقل بيت ثمنه ثلاثة ملايين، كيف يجمع هذا الشاب هذه الملايين الثلاثة ؟ هذا شيء فوق طاقته، لكن لو قلنا له: لك دخل ستة آلاف هات ألفين منها، يقول لك: حباً وكرامة، أتمنى أن تنشأ بيوت من غرفتين فقط، غرفة ومنافعها بأقل كسوة ممكنة، وأن تؤجر هذه البيوت للشباب المؤمنين الطيبين.
قلتُ سابقاً إنني سمعت عن رجل في قرية من قرى دمشق عمَّر أربع بنايات، وطوابق عديدة، وشققًا عديدة، وقال: هذه لن أبيعها إطلاقاً سأؤجرها للشباب المؤمن، آخذ على كل بيت ألفين في الشهر، هذا عمل صالح وكبير جداً، أنت لا تعرف مقدار السعادة.
أرو لكم هذه القصة: أعرف أخًا سكن في بيت مستأجر، فقالت له صاحبة البيت: أتعدني أنني إذا طلبت البيت أن تخرج ؟ قال: نعم، تركته في البيت سنوات عشرًا، وفجأةً طالبته بالبيت، هو يروي لي هذه القصة، قال لي: والله استجبت لها، وجئت في الموعد المخصص، فرأيت محاميًّا من ألمع محامي دمشق، كتبت التنازل، قال لي بعد أن وقَّعت التنازل: أمجنونٌ أنت ؟ أنت صرت في الطريق، والقصة طويلة طبعاً لا يتسع الدرس لسردها بتفاصيلها، لكن بقدرة قادر، وبشيء يعدُّ خرقاً للعادات يسَّر الله له بيتاً جيداً مفتوحاً على أربع جهات في طابقٍ مرتفعٍ يكشف الشام كلّها، ولم يكن يملك من ثمن هذا البيت شيئاً، ولأن القصة طويلة فلن أرويها كاملة، اشترى هذا البيت، وسكن فيه، وآوه الله فيه، ولكن القصة أين عبرتها ؟ أن صاحبة البيت لماذا طلبت البيت ؟ لها ابنة فاتها قطار الزواج، ثم جاءها خاطب، لكن ليس له بيت، قالت البنت لأمها: يا أمي اطلبي من فلان المستأجر أن يعطينا البيت، فلعل البيت يكون سبباً في هذا الزواج، فلما لبى دعوتها، وأعطاها البيت، ذهبت هذه الفتاة إلى أداء العمرة، وطوال الطريق وفي مكة المكرمة وعند رسول الله صلى الله عله وسلم تدعو وتقول: اللهم هيئ لفلان بيتاً خيراً من بيتي، لأنه جبر خاطري، فأكرمه الله ببيت.
عندما تهيئ بيتًا لإنسان فيتزوج، وتطمئن نفسه، ويتزوج فتاة مؤمنة تطمئن نفسها، أنت عملتَ عملا عظيمًا.
لذلك أيها الإخوة، المشكلة الآن متركزة في البيوت، إن شاء الله يتعدَّل قانون الإيجار، وقد علمت أنه سيعدل، وثمة سبعمئة ألف شقة في الشام مغلقة تنتظر تعديل قانون الإيجار، فإذا أصبح القانون ساريًا فالعقد ينفَّذ بشروطه ولمدته، فجأةً تجد سبعمئة ألف بيت في الشام معروضة للإيجار، ولا تحلُّ هذه المشكلة إلا بتوافر بيوت للإيجار لا للبيع، فالبيع طريقه مسدود.
إذاً: 

﴿ وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ ﴾

أي أن هذا طلب من أولي الأمر أن يسهِّلوا سبل الزواج لتيسير البيوت لطالبي الزواج.
يقول القرطبي في تفسير هذه الآية: " زوجوا من لا زوج له منكم، فإنه طريق التعفف ".
ويقول مفسر آخر: " هذا أمرٌ للجماعة بتزويجهم "، وبالطبع الأمر أمر ندب كما قلت قبل قليل، فهو أمر ندب وأمر وجوب، أمر ندب في حق طالبي الزواج، لكنه أمر وجوب في حق أولي الأمر، أي أن أي إنسان رغب في الزواج يجب على أولي الأمر أن ييسروا له الزواج.
لما خطب سيدنا علي فاطمة رضي الله عنها قال رسول الله صلى اله عليه وسلم
عَنِ بُرَيْدَةَ قَالَ: لَمَّا خَطَبَ عَلِيٌّ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

(( إِنَّهُ لَا بُدَّ لِلْعُرْسِ مِنْ وَلِيمَةٍ، قَالَ: فَقَالَ سَعْدٌ: عَلَيَّ كَبْشٌ، وَقَالَ فُلَانٌ: عَلَيَّ كَذَا وَكَذَا مِنْ ذُرَةٍ ))

[أحمد]

معنى ذلك أنه كان بينهم تعاون إلى أن أصبحت الوليمة جاهزة.

 

قــصــة بلــيغة

ثمة قصة بليغة جداً حول هذا الموضوع، فقد روى الإمام أحمد عن ربيعة الأسلمي قال:
كُنْتُ أَخْدُمُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَبِيعَةُ أَلا تَزَوَّجُ ؟ قَالَ: قُلْتُ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أُرِيدُ أَنْ أَتَزَوَّجَ مَا عِنْدِي مَا يُقِيمُ الْمَرْأَةَ، وَمَا أُحِبُّ أَنْ يَشْغَلَنِي عَنْكَ شَيْءٌ، فَأَعْرَضَ عَنِّي، فَخَدَمْتُهُ مَا خَدَمْتُهُ، ثُمَّ قَالَ لِيَ الثَّانِيَةَ: يَا رَبِيعَةُ أَلا تَزَوَّجُ ؟ فَقُلْتُ: مَا أُرِيدُ أَنْ أَتَزَوَّجَ، مَا عِنْدِي مَا يُقِيمُ الْمَرْأَةَ، وَمَا أُحِبُّ أَنْ يَشْغَلَنِي عَنْكَ شَيْءٌ، فَأَعْرَضَ عَنِّي، ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى نَفْسِي فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا يُصْلِحُنِي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَعْلَمُ مِنِّي، وَاللَّهِ لَئِنْ قَالَ: تَزَوَّجْ لأَقُولَنَّ نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مُرْنِي بِمَا شِئْتَ، قَالَ: فَقَالَ: يَا رَبِيعَةُ أَلا تَزَوَّجُ ؟ فَقُلْتُ: بَلَى، مُرْنِي بِمَا شِئْتَ، قَالَ: انْطَلِقْ إِلَى آلِ فُلانٍ حَيٍّ مِنَ الأَنْصَارِ، وَكَانَ فِيهِمْ تَرَاخٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْ لَهُمْ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُزَوِّجُونِي فُلانَةَ لامْرَأَةٍ مِنْهُمْ، فَذَهَبْتُ فَقُلْتُ لَهُمْ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُزَوِّجُونِي فُلانَةَ، فَقَالُوا: مَرْحَبًا بِرَسُولِ اللَّهِ وَبِرَسُولِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاللَّهِ لا يَرْجِعُ رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلّا بِحَاجَتِهِ، فَزَوَّجُونِي، وَأَلْطَفُونِي، وَمَا سَأَلُونِي الْبَيِّنَةَ، فَرَجَعْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَزِينًا فَقَالَ لِي: مَا لَكَ يَا رَبِيعَةُ ؟ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَيْتُ قَوْمًا كِرَامًا فَزَوَّجُونِي، وَأَكْرَمُونِي، وَأَلْطَفُونِي، وَمَا سَأَلُونِي بَيِّنَةً، وَلَيْسَ عِنْدِي صَدَاقٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا بُرَيْدَةُ الأَسْلَمِيُّ، اجْمَعُوا لَهُ وَزْنَ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ، قَالَ: فَجَمَعُوا لِي وَزْنَ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ فَأَخَذْتُ مَا جَمَعُوا لِي، فَأَتَيْتُ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: اذْهَبْ بِهَذَا إِلَيْهِمْ فَقُلْ: هَذَا صَدَاقُهَا، فَأَتَيْتُهُمْ فَقُلْتُ: هَذَا صَدَاقُهَا، فَرَضُوهُ، وَقَبِلُوهُ، وَقَالُوا: كَثِيرٌ طَيِّبٌ، قَالَ: ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَزِينًا فَقَالَ: يَا رَبِيعَةُ مَا لَكَ حَزِينٌ ؟ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا رَأَيْتُ قَوْمًا أَكْرَمَ مِنْهُمْ رَضُوا بِمَا آتَيْتُهُمْ، وَأَحْسَنُوا، وَقَالُوا: كَثِيرًا طَيِّبًا...

( من سنن أحمد )

جمعوا له، وهذا الذي أتمناه على كل إخوتنا، في مثلِ شابٍ أقدم على الزواج ضمن الإمكانات، يجب أن تقدم له شيئًا ضمن إمكاناتك، عشرة قدموا سجادة، خمسة عشر قدموا برادًا جيدًا، كل إنسان يقدم شيئًا، أنا أكاد أن أقول: هدية الزواج واجبة، واجبة لا مندوحة منها من أجل التعاون.
ماذا ألبسك ؟ الذهب، من الآن الذي يلبِّس الذهب !!!، هكذا الناس الآن، إلى أن جمع ثمن الذهب تكون روحه قد خرجت، وفرح كثيراً، وقدم الإسوارتين، فتقول لها عمتها: من الذي الآن يلبس ذهب، الآن يعتبر الذهب غير كافٍ ـ ماذا قالوا ؟ قالوا: كثيرٌ طيب.
والله أيها الإخوة الموقف الكامل لا يقدَّر بثمن، شاب فقير خطب، وأخلاقه عالية، ومؤمن، قدم شيئًا، فالمؤمن الكامل يثني على هذا الشيء على طول، والله شيء جميل، الله يجزيك الخير، رائع، جميل، لطيف، هكذا المؤمن، قالوا: كثيرٌ طيب.

(( ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَزِينًا فَقَالَ: يَا رَبِيعَةُ مَا لَكَ حَزِينٌ ؟ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا رَأَيْتُ قَوْمًا أَكْرَمَ مِنْهُمْ رَضُوا بِمَا آتَيْتُهُمْ، وَأَحْسَنُوا، وَقَالُوا: كَثِيرًا طَيِّبًا، وَلَيْسَ عِنْدِي مَا أُولِمُ، قَالَ: يَا بُرَيْدَةُ اجْمَعُوا لَهُ شَاةً. قَالَ: فَجَمَعُوا لِي كَبْشًا عَظِيمًا سَمِينًا، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اذْهَبْ إِلَى عَائِشَةَ فَقُلْ لَهَا فَلْتَبْعَثْ بِالْمِكْتَلِ الَّذِي فِيهِ الطَّعَامُ ـ من بيته ـ قَالَ: فَأَتَيْتُهَا فَقُلْتُ لَهَا مَا أَمَرَنِي بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: هَذَا الْمِكْتَلُ فِيهِ تِسْعُ آصُعِ شَعِيرٍ لا وَاللَّهِ إِنْ أَصْبَحَ لَنَا طَعَامٌ غَيْرُهُ ـ قدمت له الشعير ـ خُذْهُ، فَأَخَذْتُهُ، فَأَتَيْتُ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَخْبَرْتُهُ مَا قَالَتْ عَائِشَةُ فَقَالَ: اذْهَبْ بِهَذَا إِلَيْهِمْ فَقُلْ: لِيُصْبِحْ هَذَا عِنْدَكُمْ خُبْزًا، فَذَهَبْتُ إِلَيْهِمْ، وَذَهَبْتُ بِالْكَبْشِ، وَمَعِي أُنَاسٌ مِنْ أَسْلَمَ، فَقَالَ: لِيُصْبِحْ هَذَا عِنْدَكُمْ خُبْزًا، وَهَذَا طَبِيخًا، فَقَالُوا: أَمَّا الْخُبْزُ فَسَنَكْفِيكُمُوهُ، وَأَمَّا الْكَبْشُ فَاكْفُونَا أَنْتُمْ، فَأَخَذْنَا الْكَبْشَ أَنَا وَأُنَاسٌ مِنْ أَسْلَمَ، فَذَبَحْنَاهُ، وَسَلَخْنَاهُ، وَطَبَخْنَاهُ، فَأَصْبَحَ عِنْدَنَا خُبْزٌ وَلَحْمٌ، فَأَوْلَمْتُ، وَدَعَوْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَانِي أَرْضًا... ))

هكذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم ، فلا شيء عنده، أمره: اخطبْ من بيت فلان، واجمعوا له المهر، واجمعوا له ثمن الوليمة.
إخواننا الكرام... الذين يبحثون عن السعادة والله لو عرفوا أن هذه السعادة في إكرام الناس لسعدوا أضعافًا مضاعفة مما لو استهلكوا هذا المال في شهواتهم ومتعهم، فالذي يعطي يشعر بسعادة كبيرة جداً.

 

مسؤولية أولي الأمر في تزويج الأبناء

بقيت فقرة أخيرة في الدرس: مسؤولية أولي الأمر عن تزويج الشباب.. جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:

(( إِنِّي تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً مِنَ الأَنْصَارِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ نَظَرْتَ إِلَيْهَا ؟ فَإِنَّ فِي عُيُونِ الأَنْصَارِ شَيْئًا ؟ قَالَ: قَدْ نَظَرْتُ إِلَيْهَا، قَالَ: عَلَى كَمْ تَزَوَّجْتَهَا ؟ قَالَ: عَلَى أَرْبَعِ أَوَاقٍ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلَى أَرْبَعِ أَوَاقٍ كَأَنَّمَا تَنْحِتُونَ الْفِضَّةَ مِنْ عُرْضِ هَذَا الْجَبَلِ ـ النبي ما رضي أن يكون هذا المهر غالياً، أربع أواق من الفضة ـ مَا عِنْدَنَا مَا نُعْطِيكَ، وَلَكِنْ عَسَى أَنْ نَبْعَثَكَ فِي بَعْثٍ تُصِيبُ مِنْهُ، قَالَ: فَبَعَثَ بَعْثًا إِلَى بَنِي عَبْسٍ بَعَثَ ذَلِكَ الرَّجُلَ فِيهِمْ ))

(مسلم )

لذلك أعظم النساء بركةً أقلهن مهرا.
عَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

(( أَعْظَمُ النِّسَاءِ بَرَكَةً أَيْسَرُهُنَّ مَئُونَةً ))

( من سنن أحمد )

طلباتها قليلة.

(( كَأَنَّمَا تَنْحِتُونَ الْفِضَّةَ مِنْ عُرْضِ هَذَا الْجَبَلِ، مَا عِنْدَنَا مَا نُعْطِيكَ ؟ وَلَكِنْ عَسَى أَنْ نَبْعَثَكَ فِي بَعْثٍ تُصِيبُ مِنْهُ، قَالَ: فَبَعَثَ بَعْثًا إِلَى بَنِي عَبْسٍ بَعَثَ ذَلِكَ الرَّجُلَ فِيهِمْ ))

النبي عليه الصلاة والسلام في هذه القصة لا يمثل النبوة، بل يمثل أولي الأمر، فقد هيَّأ له عمل كي يكون قواماً له على الزواج.
إذاً واجب أولي الأمر: تيسير الأعمال، ماذا قال عمر رضي الله عنه ؟ قال: << إن هذه الأيدي خُلِقتْ لتعمل، فإذا لم تجد في الطاعة عملاً التمست في المعصية أعمالاً، فاشغلها بالطاعة قبل أن تشغلك بالمعصية >>.
توفير فرص العمل من أعظم الأعمال، لماذا كان الربا حرامًا ؟ أنت معك مثلاً خمسة ملايين لو وضعتها في مصرف، وأخذت الفائدة تكفيك مصروف سنة، أما لو أسست بها مشروعاً، فأنت بحاجة إلى محاسب، بحاجة إلى دفتر فواتير، شغلت المطبعة، أنا لا أبالغ أنّ أيّ مشروع مهما كان صغيرًا يشغّل خمسمئة جهة، بحاجة إلى نقل البضاعة، إلى مستودع، إلى أمين مستودع، بحاجة إلى ورق المراسلات، إلى طبع، بحاجة إلى أجهزة اتصال مثلاً.
مرة قرأت عن معمل من معامل السيارات يشغِّل مئتي ألف معمل، لذلك طرحُ المال في الأعمال التجارية والصناعية والزراعية يؤمِّن فرص عمل.
الأخبار بالصحف، يقول لك: هذا المعمل يؤمن خمسمئة فرصة عمل، معنى ذلك أن أكبر مهمة من مهمات أولي الأمر توفير فرص العمل للشباب، فإذا صار للشاب له عمل، وأصبح له دخل يقول لك: أريد أن أخطب، أول عمل بعد العمل يريد أن يخطب، ومعه حق، لكن بلا عمل هذا مشكلة، فمسؤولية أولي الأمر في توفير الأعمال.
هناك قصة مهمة جداً، سيدنا عمر رضي الله عنه أعطى ابنه من بيت مال المسلمين، وليس كعمر إنسان بورعه، ومع ذلك رأى أن واجب أولي الأمر أن يعينوا على تزويج الشباب، فقد روى أبو عبيد القاسم عن عاصم بن عمر رضي الله عنه، قال: << لما زوجني عمر ـ أي أبوه ـ أنفق علي من مال الله شهراً، ثم قال: يا يرفأ احبس عنه، ثم دعاني، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد فإني لم أكن أرى أن هذا المال يحل لي إلا بحقه، ولم أحرمه عليك حين وليت هذا الأمر، وقد أنفقت عليك من مال الله شهراً، ولن أزيدك عليه >>.
فسيدنا عمر رأى أن من واجبه أن يزوج ابنه من بيت مال المسلمين، وقد أنفقت عليك من مال الله شهراً، ولن أزيدك عليه، أي أنه أعانه، إذاً هذا الشيء يجب أن يكون لكل شباب المسلمين، إذاً من واجب أولي الأمر الدعم المادي المباشر، إما توفير الأعمال أو الدعم المادي المباشر.
هناك قصة أخرى، سيدنا عمر بن عبد العزيز كتب إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن وهو بالعراق: << أن أخرج للناس أعطياتهم، فكتب عبد الحميد: " إني قد أخرجت للناس أعطياتهم، وقد بقي في بيت المال مال ـ أي أنه أعطى رواتب لكل الموظفين ـ فكتب إليه: " انظرْ كلَّ من أدان من غير سفهٍ، ولا سرفٍ فاقضِ عنه ـ كل إنسان غارم استدان مبلغًا من المال من غير سرفٍ، ولا سفهٍ فاقضِ عنه ـ فكتب إليه: " أني قد قضيت عنهم وبقي في بيت المال مالٌ، فكتب إليه: انظرْ كل بكرٍ ليس له مالٌ فشا ـ أي نما ـ فزوِّجه، فزوجت الشباب والفتيات >>.
هذا توجيه من سيدنا عمر.
أولاً: أعطي الأعطيات، ودفع الرواتب، قال له: بقي مال قاله له: اقضِ عن الغارمين من غير سفهٍ ولا سرفٍ، قال له: قضيت عنهم، وبقي مال قال له: زوج الشباب منهم بمال بيت المال.
أيها الإخوة، إلى هنا ينتهي الموضوع اليوم، وهو إزالة العقبات الكبيرة، ومن أكبر العقبات الفقر، ندعم الفقير معنوياً نبيِّن له الآيات والأحاديث، ثم ندعمه مالياً عن طريق والده، وعن طريق مجموع المؤمنين، وعن طريق أولي الأمر.
وفي الدرس القادم نتحدث إن شاء الله عن الفقر المفتعل، الفقر المصطنع، فهذا هو الفقر الحقيقي.

نص الزوار

اللغات المتوافرة

إخفاء الصور